الطعام والأطفال: كيف تجعلين الأطفال يحبون الطعام

يُعدّ الطعام من الركائز الأساسية في نمو الأطفال وتطورهم الجسدي والعقلي. إلا أن الكثير من الأمهات يواجهن صعوبة في جعل أطفالهن يتقبلون الطعام، بل ويحبونه، لا سيما في مراحل النمو الأولى حين تبدأ شخصية الطفل في التبلور ويظهر ميله الانتقائي تجاه أنواع معينة من الأطعمة. يتخذ بعض الأطفال موقفًا رافضًا تجاه الطعام لأسباب تتعلق بالنكهة، الملمس، أو حتى لمجرد رغبتهم في فرض السيطرة أو جذب الانتباه. وهذا ما يجعل التعامل مع تغذية الطفل مهمة دقيقة تتطلب فهمًا عميقًا لعوامل نفسية، بيئية، وتغذوية مجتمعة.

فهم العلاقة بين الطفل والطعام

في المراحل الأولى من الطفولة، يتعامل الطفل مع الطعام بوصفه عنصرًا جديدًا قد يثير الفضول أو الخوف، وغالبًا ما يعتمد هذا التفاعل على التجارب الأولى التي يخوضها مع الأكل. من هنا، فإن إيجاد علاقة إيجابية بين الطفل والطعام هو المفتاح الأساسي لتكوين عادات غذائية صحية تستمر مدى الحياة.

الأطفال يتعلمون من خلال الملاحظة والتجربة، ولذلك فإن الطريقة التي يأكل بها الوالدان، تعابيرهم، ولغتهم الجسدية أثناء تناول الطعام، تؤثر بشكل كبير على كيفية تقبل الطفل للطعام. على سبيل المثال، إذا لاحظ الطفل والدته تعبر عن اشمئزازها من الخضروات، فقد يكتسب هذه المعلومة بطريقة لا واعية وينشأ على تجنبها.

أهمية تقديم الطعام في بيئة إيجابية

البيئة التي يقدم فيها الطعام تلعب دورًا حاسمًا في بناء علاقة الطفل به. يجب أن تكون لحظة تناول الطعام لحظة محببة وليست مرهونة بالتوبيخ أو التهديد. استخدام العقاب أو المكافآت المرتبطة بالطعام قد يخلق لدى الطفل علاقة مشوشة مع الغذاء، فقد يتحول الطعام إلى وسيلة للسيطرة أو التمرد.

إنّ توفير بيئة مريحة، خالية من الإكراه والضغط، يساعد الطفل على اكتشاف الطعام دون رهبة، مما يفتح الباب أمامه لتجربة نكهات جديدة بطريقة إيجابية. يمكن مثلاً تخصيص وقت الأسرة لتناول الطعام معًا، مما يعزز الشعور بالانتماء ويشجع الأطفال على تقليد الكبار في تناول الطعام.

التنويع في التقديم: فن جذب الطفل للطعام

الأطفال بطبيعتهم ينجذبون للألوان، الأشكال، والروائح، ولهذا فإن تقديم الطعام بطريقة جذابة يعد أداة فعالة في جعلهم يحبونه. يمكن للأم استخدام أدوات المطبخ البسيطة لصنع أشكال لطيفة من الخضروات والفواكه، أو إعداد وجبات على شكل وجوه ضاحكة، حيوانات، أو شخصيات كرتونية يحبها الطفل.

كما أن التقديم في أطباق ملونة وذات رسومات محببة قد يساهم في جعل وقت الطعام لحظة ممتعة ينتظرها الطفل بشوق. لا يتعلق الأمر بجودة الطعام فقط، بل بالطريقة التي يُقدَّم بها، فالعين تأكل قبل الفم.

إشراك الطفل في تحضير الطعام

من الاستراتيجيات الفعالة لجعل الطفل يحب الطعام أن يتم إشراكه في مراحل التحضير بطريقة تتناسب مع عمره. يستطيع الطفل المساعدة في غسل الخضروات، ترتيب الطاولة، أو حتى اختيار نوع الطعام من بين خيارات صحية مقترحة.

هذا النوع من المشاركة يزرع في الطفل الإحساس بالمسؤولية، ويزيد من رغبته في تذوق ما ساهم في إعداده. كما أن ذلك يشكل فرصة لتعليم الطفل معلومات غذائية مفيدة بطريقة غير مباشرة، مثل فوائد أنواع معينة من الطعام، مما يعزز الوعي الغذائي لديه منذ الصغر.

بناء العادات الغذائية الصحية تدريجياً

لا يمكن فرض حب الطعام على الطفل دفعة واحدة، فالأمر يتطلب صبرًا وتدرجًا. البدء بتقديم الطعام الجديد بكميات صغيرة إلى جانب طعام يحبه الطفل، قد يكون مدخلاً جيدًا لتعريفه بمذاقات جديدة دون أن يشعر بالإجبار. كما أن التكرار له دور محوري، فقد يحتاج الطفل لتجربة نفس النوع من الطعام أكثر من عشر مرات قبل أن يقرر تقبّله.

في هذا السياق، ينصح بتجنب الإلحاح أو التوبيخ إذا رفض الطفل نوعًا من الطعام، بل يتم تقديمه لاحقًا بطريقة مختلفة أو ضمن وصفة محببة له.

التغذية العاطفية: الربط بين الطعام والمشاعر

يؤثر الجانب العاطفي بشكل كبير في علاقة الطفل بالطعام. حين يشعر الطفل بالأمان، الحب، والدعم، فإنه يكون أكثر استعدادًا لتجربة أشياء جديدة، بما في ذلك الطعام. أما في حال ارتبط الطعام بأجواء التوتر أو الخوف، فإن الطفل قد يرفضه كرد فعل نفسي دفاعي.

من المهم جدًا أن لا يُستخدم الطعام كوسيلة للترغيب أو التهديد في المواقف العاطفية، مثل “إذا أكلتَ ستحصل على حب والدتك” أو “إن لم تأكل فلن تخرج للعب”، لأن هذه الرسائل تؤدي إلى نشوء اضطرابات غذائية مستقبلًا. ينبغي أن يكون الطعام في حد ذاته غاية للمتعة والتغذية، لا أداة للمساومة.

النمذجة السلوكية: القدوة في العادات الغذائية

يراقب الطفل والديه باستمرار، ويتعلم من سلوكهم أكثر مما يتعلم من أوامرهم. إذا رأى الطفل أن الوالدين يتناولان طعامًا متنوعًا ويستمتعون به، فسيشعر بأن ذلك هو السلوك الطبيعي.

كما أن الحديث الإيجابي عن الطعام، ذكر فوائده، وإظهار التقدير للطعام ومصدره، كلها رسائل يتلقاها الطفل وتؤثر في مواقفه المستقبلية تجاه الغذاء.

التعامل مع الانتقائية الغذائية

تُعدّ الانتقائية في الطعام أمرًا شائعًا لدى الأطفال، ولا يعني بالضرورة وجود مشكلة صحية أو نفسية. في كثير من الأحيان، يختار الطفل نوعًا معينًا من الطعام ويرفض غيره، لكنه مع الوقت والانفتاح على تجارب جديدة قد يُغيّر ذوقه.

لا يجب تضخيم هذه المرحلة أو تحويلها إلى معركة يومية، بل الأفضل التعامل معها بهدوء وصبر، والحرص على تقديم بدائل صحية دون إجباره على نوع معين من الأكل. كذلك، من الأفضل تقليل اللجوء للأطعمة الجاهزة أو المحلاة كبدائل سريعة، لأنها تعزز الانتقائية وتحدّ من تَقبُّل الطفل للأطعمة الطبيعية.

أهمية الروتين الغذائي

ينبغي ترسيخ مفهوم الروتين الغذائي لدى الطفل منذ سنواته الأولى، لأن ذلك ينظم الساعة البيولوجية للجوع والشبع، ويمنع الأكل العشوائي. تحديد أوقات منتظمة للوجبات والوجبات الخفيفة يساعد في ضبط شهية الطفل ويقلل من تناوله المفرط للسكريات أو المقليات في أوقات غير مناسبة.

كما أن تناول الطعام على مهل، ومضغه جيدًا، يعزز من الشعور بالشبع ويُعلّم الطفل احترام عملية التغذية بوصفها أكثر من مجرد ملء للمعدة.

جدول يوضح نصائح عملية لجعل الطفل يحب الطعام

التأثير بعيد المدى للتغذية السليمة في الطفولة

تنعكس العادات الغذائية المكتسبة في الطفولة على حياة الإنسان بكاملها. فالطفل الذي نشأ في بيئة تحترم الطعام وتقدّمه بشكل متوازن، سيكون على الأرجح بالغًا يتبنى نفس السلوك. كما أن التغذية الصحية تؤثر في التركيز، النمو، المناعة، والاستعداد الذهني للتعلم.

وفي المقابل، فإن التغذية غير المتوازنة، المرتبطة بالإجبار أو المكافآت، قد تؤدي إلى اضطرابات غذائية مثل النهم، الكسل، أو حتى فقدان الشهية العصبي في المراحل المتقدمة من العمر.

إن تربية الطفل على حب الطعام تتطلب مزيجًا من الفهم النفسي، المعرفة الغذائية، والإبداع في التقديم. وهي رحلة تبدأ منذ دخول أول ملعقة فمه وتستمر لتشكّل حجر الأساس لصحة وسلوك غذائي يستمر مدى الحياة.

المصادر:

1. Birch, L.L., & Fisher, J.O. (1998). Development of eating behaviors among children and adolescents. Pediatrics, 101(3 Pt 2), 539-549.

2. Satter, E. (2000). Child of Mine: Feeding with Love and Good Sense. Bull Publishing Company.